القول الثاني: أراد بالكتاب القرآن، أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر و برهان باهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزا إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة و البلاغة، و اشتماله على الغيوب و على العلوم الكثيرة. فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزا. فقوله: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتََابِ أي و من عنده علم القرآن و هو قول الأصم.
القول الثالث: و من عنده علم الكتاب المراد به: الذي حصل عنده علم التوراة و الإنجيل، يعني: أن كل من كان عالما بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فإذا أنصف ذلك العالم و لم يكذب كان شاهدا على أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلم رسول حق من عند اللّه تعالى.
القول الرابع: و من عنده علم الكتاب هو اللّه تعالى، و هو قول الحسن، و سعيد بن جبير، و الزجاج قال الحسن: لا و اللّه ما يعني إلا اللّه، و المعنى: كفى بالذي يستحق العبادة و بالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني و بينكم، و قال الزجاج: الأشبه أن اللّه تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره، و هذا القول مشكل، لأن عطف الصفة على الموصوف و إن كان جائزا في الجملة إلا أنه خلاف الأصل. لا يقال: شهد بهذا زيد و الفقيه، بل يقال: شهد به زيد الفقيه، و أما قوله إن اللّه تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد، لأنه لما جاز أن يقسم اللّه تعالى على صدق قوله بقوله: وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ [التين: 1]فأي امتناع فيما ذكره الزجاج.
و أما القراءة الثانية: و هي قوله: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتََابِ على من الجارة فالمعنى: و من لدنه علم الكتاب، لأن أحدا لا يعلم الكتاب إلا من فضله و إحسانه و تعليمه، ثم على هذه القراءة ففيه أيضا قراءتان: و من عنده علم الكتاب، و المراد العلم الذي هو ضد الجهل، أي هذا العلم إنما حصل من عند اللّه.
و القراءة الثانية: و من عنده علم الكتاب بضم العين و بكسر اللام و فتح الميم على ما لم يسم فاعله، و المعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة اللّه تعالى على ما ذكرناه، و كان لا معنى لشهادة اللّه تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، و لا يعلم كون القرآن معجزا إلا بعد الإحاطة بما في القرآن و أسراره، بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند اللّه، و المعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزا لا يحصل إلا إذا شرف اللّه تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن. و اللّه تعالى أعلم بالصواب.
تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى و ستمائة. و أنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا و انتفع به أن يخص ولدي محمدا بالرحمة و الغفران، و أن يذكرني بالدعاء. و أقول في مرثية ذلك الولد شعرا:
أرى معالم هذا العالم الفاني # ممزوجة بمخافات و أحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة # و شره في البرايا دائم داني