و القبح قد تتزاحم في مرحلة تالية، كما لو اقتضت حيثيّة حفظ الأمانة لزوم الكذب، فإنّه حينئذ يقتضي قبح الصدق أو حسن تركه، و تقع المزاحمة بين حرمة الصدق و حرمة خيانة الأمانة، و المتحصل بعد الكسر و الانكسار قضايا نظرية في العقل العملي ليست بديهية، لكنّها قد تستقر على ميزان أخلاقي «ما»، و لا يعني كونها نظرية أنّها مستنبطة بالبرهان من القضايا الأولية كما كنّا نقصد بالعقل النظري، بل بمعنى أنّها رؤية أخرى وراء العقل العملي، لكنّها ليست واضحة دائما و قد قلنا فيما تقدّم انّه ليس كل قضية أولية يجب أن تكون واضحة إذ لا دليل على ذلك، بل قد يكون الدليل على خلافها كما أوضحنا ذلك في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، إذ كون القضايا قضايا نظرية لا يعني أنّها معرفة ثانوية مستنبطة، بل معناه- مع الحفاظ على كونها معرفة أولية- انّ بعضها يكون واضحا فيكون بديهيا، و بعضها ليس كذلك.
و نحن نرى انّ الاختلافات الموجودة بين النّاس السويّين في تفكيرهم على اختلاف مجتمعاتهم و أعرافهم، إنّما ترجع بحسب الحقيقة- إذا استثنينا بعض حالات الشذوذ- إلى باب التزاحم، و إلى الاختلاف في تقديم قيمة على قيمة في عملية الكسر و الانكسار، و رغم هذا، فإنّ هذه الاختلافات لا توجب تشكيكنا في أصل إدراكاتنا للعقل العملي الأول.
ثمّ انّ هناك شبهات و إشكالات تذكر للأشاعرة في مقام نفي الحسن و القبح العقليّين في علم الكلام، نعرض عنها لكونها تخرجنا عن محل الكلام، و لاكتفائنا بذكر ما يناسب المقام من ناحية البحث الحلّي.
إلّا أنّه بقي هناك نقطة لا بدّ من بيانها، و هي انّ العقل العملي وحده لا يمكن ان يستكشف به حكم شرعي، أو يستدل به على ذلك، فلو حكم العقل العملي بحسن الصدق، و قبح الكذب فهذا لا يكفي